قالت لي أمي التي أصبحت جدة في الأربعينات من عمرها : لازم يكون مستغرب، ده بطن أمه أوسع له من الدنيا اللي لقي نفسه فيها فجأة ..
قالتها في حنان وحنين وإشفاق، ناظرة إلى وجه الرضيع الذاهل الذي ينظر حوله دون بكاء، وكنت أنا أحمله على ذراعي، ولا أقل عنه ذهولا أو استغرابًا ..
منذ لحظات هتفت الممرضة بأنه ولد، لتنقلب الدنيا رأسًا على عقب، فينفجر الجميع في البكاء والدعاء والهتاف، أبي وأمي
ووالدي زوجتي وأقربائي وأقاربها، إنها مفاجأة على غير انتظار لكنها لم تهزني، بل وقفت متجمدًا في منتصف الغرفة
التي ننتظر فيها جميعًا وقد دارت الدنيا من حولي، فما هزني كان شيئًا مختلفًا بالمرة ..
راحت السكرة وانقشع الضباب لتجئ الفكرة ويفرض الواقع نفسه ..
أنا الآن أب ..
أب لأول مرة ..
ليكن المولود صبيًا أو بنتًا أو حتى كائنًا من الفضاء الخارجي
، لكنني الآن أب وهذا ما يهمني ..
بعد لحظات من انفجار الخبر استدعاني طبيب الأطفال ليخبرني بأن المولد كان يلهث قليلا فور ولادته، لذا فقد وضعه في
مدفأة حتى يهدأ، لكن الحالة مطمئنة عمومًا ولا داعي للقلق، القلق هو ما فهمه من وجومي وأنا أسمعه، لكني كنت في واد آخر ..
إن الطبيب يتكلم عنه ..
عن ابن لي جاء إلى الدنيا اليوم ..
عن شعور داهمني فجأة بأن الحياة قد انقلبت تمامًا، وأن هناك الآن من هو أهم مني، ومن أتمنى أن يعيش حياة أفضل من حياتي ..
طلب من مني الطبيب أن أهبط لشراء بعض المستلزمات له من الصيدلية، وفعلت، وعندما عدت إلى الغرفة كان بين أيديهم ..
قطعة صغيرة من اللحم الأحمر، ملامحه هجين بين ملامحي وملامح زوجتي، هادئ مستكين يبادل الوجوه التي تناظره
فرِحة هاشة باشة النظر، دون أن يتعرف على أحد ..
هتفوا بي أن أحمله، فحملته، ونظرت إليه، فسرت قشعريرة هائلة في جسدي، واغرورقت عيناي بالدموع وأنا أنظر إليه ..
إن المرء لا يحمل قطعة من قلبه
بين يديه كل يوم ..
نظرت إليه، ونظر إلي، وابتسمت في حين ظل هو يجول عينيه الصغيرتين في كل ما حوله كأنه يريد اكتشاف العالم الذي
وجد نفسه فيه فجأة، كما قالت أمي ..
أحمد ..
قلتها بيني وبين نفسي، ثم رددتها بصوت عال، كأنني أناديه، ولا أدري لماذا خيل إلي لحظتها أنه سمعني، فالتفت إلي ..
رفعته لأعلى كأنني أمنحه قربانًا، كما فعل الأسد الملك عندما رفع ابنه سيمبا عاليًا على أنغام أغنية دائرة الحياة ..
دائرة الحياة التي تنتهي في هذه اللحظات الاستثنائية، بالكاد لتبدأ من جديد ..
هذا ولدي، الذي سيكبر غدًا ليحب ويتزوج وينجب ..
هذا ولدي الذي سوف يسير في طريق الدنيا، يتعلم ويعمل وينتج، يفكر ويبدع ويكمل طريق البداية الذي سار فيه الأقدمون ..
إن الله سبحانه وتعالي يبث في القلب – خلال هذه اللحظات – دفقات متتالية من المشاعر، التي تعجز البلاغة عن
إدراكها، دفقات تجعلك تدرك أن هذا الكائن المتغضن بين يديك هو الغد، وأنه منذ هذه اللحظة سوف يكون أحد محاور حياتك الهامة ..
سبحان الله، فهي حكمته التي يستمر بها الكون ويعمر ..
وضعته بسلام فوق سريره، وخرجت أمه بعد قليل لأطمئن عليها بدوري، وتتلاقى عيوننا وبيننا طفلنا، ثمرة حبنا الجميل الأولى ..
تعاهدنا دون كلمات أن نحسن تربيته، وأن نجند أنفسنا لخدمته صغيرًا، ولتنشئته إنسانًا كبيرًا مدركًا سويًا، وألا نبخل عليه بأنفسنا ..
أحمد ..
مرحبًا بك يا عزيزي في هذه الحياة التي ربما هي بالفعل أضيق عليك من رحم أمك، لكني أعدك أن أكون رفيقك في تعرفك عليها ..
سوف تكبر يومًا وتقرأ هذه الكلمات، لا أعلم إن كنت ستدركها أم لا، ما أعلمه هو أنك لن تدرك معناها كاملا إلا وأنت
تتلقف مولودك الأول إلى هذا العالم، لتصبح أبًا لأول مرة ..
لا أنت، ولا قارئ سطوري هذه الآن ..
غير أني قررت أن أستكشف أبوتي لك على طريقتي، هنا، في كلمات وسطور تلخص عمق التجربة سواء بالنسبة لك ..
أو للآخرين ..